وانطلقت أكافح في الحياة وأرجع إلي عشي الصغير فأجد لدي زوجتي وطفلي ما يعوضني عن كل شقاء الرحلة. وأتيحت لي فرصة العمل في الخارج أكثر من مرة, فاشترطت في كل مرة أن تعمل معي زوجتي في نفس المكان.. لكيلا نفترق بعد أن جمع الله شملنا.. وعملنا معا بالفعل4 سنوات في احدي الدول العربية الافريقية.. واشترينا شقة أكبر وسيارة وأصبح لنا رصيد مشترك في البنك, ورجعنا حين استشعرنا حاجة الأبناء لأن ينشأوا بين أحضان الأهل وفي حمايتهم.. ومضت حياتنا كلها كرحلة جميلة معطرة بالحب والتفاهم والوئام, وأيا كان ما يحدث بيننا من أمور الحياة المألوفة.. فلقد تعاهدنا منذ اليوم الأول لاجتماع شملنا علي ألا يبيت أحدنا وهو غاضب من الآخر لأي سبب.. ولاحظت علي نفسي مع تقدمي في العمر, أنني أصبحت لا أستشعر الراحة والأمان إلا إلي جوار زوجتي, وحين تقدم الابنان في مدارج العمر وأصبح لكل منهما رغباته ومطالبه وشخصيته لمسا بسهولة عمق روابط الحب والتفاهم التي تجمع بيني وبين أمهما.. ومنذ سن الرابعة عشرة بدأت ابنتي الكبري تعلن لأمها أنها لن تتزوج ذات يوم إلا إذا جمعها حب كبير بزوجها كما هو الحال بين أبويها.
وعبرت بنا ككل البشر أحزان الحياة المألوفة.. فلم تحفر بصمتها الغائرة في نفوسنا لأننا احتمينا منها بحب كل منا للآخر وعطفه عليه ومواساته له, فمات أبي رحمه الله وبكيته كثيرا وبكته زوجتي أكثر, ومات والدها فتساندنا معا علي مواجهة المحنة.. ولقي أخ أصغر لي مصرعه رحمه الله في حادث سيارة فكدت أفقد صوابي لولا عطف زوجتي علي ومواساتها لي, وتخرجت ابنتي في كليتها واستوت زهرة فواحة تسر العيون وتخرج أبني في احدي كليات القمة وأراد استكمال دراسته في أمريكا فجزعت لفكرة افتراقه عنا4 سنوات أو تزيد.. لكن زوجتي الحكيمة هونت علي الأمر وأقنعتني بألا أقف حجر عثرة في طريق طموح ابننا.. وأكدت لي أنه سيرجع إلينا ذات يوم ولن يتخلي عنا أبدا, فوافقت علي مضض.. ثم أبلغتني زوجتي ذات يوم وهي تبتسم ابتسامة معبرة أن هناك من يرغب في التقدم إلي ابنتي لكن امكانياته المادية لا تشجعه علي ذلك.. وأن ابنتي ترغبه.. وتحبه بعمق وتأمل في أن نتجاوز عن ضعف امكانياته لإسعادها ومساعدتها علي اجتماع شملها به, فنظرت إليها طويلا وقرأت في عينيها ما لم تنطق به.. وأكملت في ذهني بقية كلامها فتخيلتها تقول لي إن هذا الشاب الذي يحب ابنتنا بشدة يكرر قصة شاب آخر مكافح أعانته فتاته منذ سنوات بعيدة علي أمره لكي يتقدم إليها.
ولم أجد بدا من أن أكون متفهما وعطوفا مع هذا الشاب المكافح حرصا علي إسعاد إبنتي كما فعل والد زوجتي معي قبل27 عاما وتلألأ بالسعادة والابتهاج وجه ابنتي الحبيبة وقررنا أن يتم الزفاف بعد ثلاث سنوات.. واتصلنا بابننا الغائب نبلغه بخبر خطبة أخته, وسعدت زوجتي في هذه الفترة سعادة طاغية وأشرق وجهها الجميل الذي لم يؤثر فيه الزمن بالبهجة والسرور, وأصبحت أسرار ابنتها الصغيرة مع خطيبها هي مادة حديثهما الهامس المتصل بلا انقطاع بينهما, وازداد الهمس الخافت بينها وبين ابنتها حتي كاد يستثير غيرتي أكثر من مرة, فصرخت فيهما ماذا تخفيان عني من أسرار؟ فتنفجر زوجتي ضاحكة في سرور وتقول لي إنها أسرار بنات ليس من حقي أن أعرفها!
وفي قمة هذه البهجة والسعادة صحت زوجتي من نومها ذات يوم وهي تشعر بإعياء شديد فاعتذرت عن عدم الذهاب إلي العمل وأمضت يومها في الفراش.. ورجعت من عملي فوجدتها مازالت تشكو الإعياء, فلم أخلع ملابسي وخرجت علي الفور لاستدعاء الطبيب, وجاء الطبيب وفحصها بعناية, وكتب لها بعض الأدوية وانصرف.. ولم تتحسن حالة زوجتي بالعلاج.. فاصطحبتها إلي طبيب آخر طلب اجراء بعض الفحوص لها وأجريناها فإذا بها تحمل لي صدمة العمر التي لم أتخيلها ذات يوم.
وبدأنا رحلة العذاب مع الأطباء والمستشفيات والتحاليل.. وكل يوم يمضي تذبل ورقة من أوراق نضارة زوجتي وحيويتها وجمالها وارتبكت أحوالي جميعها.. وانشغلت عن عملي وأهلي وأخوتي برعاية زوجتي وعلاجها.., وتفرغت تماما للتسرية عنها ورفع روحها المعنوية واصطحابها للنزهة في شوارع المدينة كلما سمحت لها حالتها الصحية.. ونذرت صوما لله تعالي إلي أن يكتب لها الشفاء ويصرف عنها هذا البلاء, فبدأت الصوم من الأسبوع الثالث لمرضها.. واستمر لأكثر من5 أشهر لم أفطر خلالها إلا في أيام الجمع فقط, لأني في هذا اليوم أتناول طعام الغداء مع زوجتي وابنتي وخطيبها كما أعتدنا أن نفعل في الأيام السعيدة..
وبعد احدي مآدب يوم الجمعة هذه نظرت إلي زوجتي طويلا ثم قالت لي إنها ستطلب مني شيئا وترجو ألا أرفضه.. وأكدت لها أنني سأفعل كل ما تريد بلا تردد فقالت لي إنها تريد أن نعقد قران ابنتنا علي هذا الشاب علي الفور وأن يتم زفافها إليه في أقرب فرصة ولو تطلب الأمر أن يقيما معنا في غرفة الابنة إلي أن ينتهي إعداد الشقة التي وفرها خطيبها لها فينتقلان إليها..
وفهمت علي الفور ما وراء هذا المطلب المفاجيء.. فاسودت الدنيا في وجهي ومادت بي الأرض لكني تمالكت نفسي وأعلنت موافقتي بل وابتهاجي بتحقيق هذا المطلب السعيد لها.
واستدعيت خطيب ابنتي وطلبت منه الأستعداد لعقد القران والزفاف بعد أسبوعين علي الأكثر.. ورفضت كل مبرراته للتأجيل لعدم الأستعداد أو مراعاة لحالة زوجتي الصحية..
وخلال أيام كنت قد اشتريت غرفة نوم جديدة لابنتي وغيرت ستائر غرفتها واشتريت لها ما يلزمها من ملابس وحددنا موعد القران والزفاف.. واتصلت بابني أطلب منه العودة في إجازة لحضور زفاف أخته ورؤية والدته. وقبل الزفاف بأيام تدهورت صحة زوجتي ونقلت إلي المستشفي وعولجت علاجا مكثفا.. وبكت وهي ترجوني ألا أؤجل القران والزفاف وأن أخرجها من المستشفي ولو علي مقعد متحرك لتري ابنتها في ثوب الزفاف الأبيض ويسعد قلبها بسعادتها.. وأقسمت لها أن أفعل ما تريد وأخرجتها من المستشفي بالفعل قبل الزفاف بيوم واحد رغم معارضة الأطباء, وطلبت من ابنتي أن تدعو صديقاتها للاحتفال معها ومع أمها بليلة الحنة.. وجلست زوجتي بين ابنتها وصويحباتها. ترقب غناءهن لابنتها والبشر يطفر من وجهها ويعيد إليه بعض دماء العافية السابقة.. ونامت زوجتي يومها نوما هادئا وبلا ألم كأنما قد برأت من مرضها.. وفي الصباح الباكر استيقظت علي طرقات الباب ووجدت ابني أمامي يفتح ذراعيه لي ثم يجري إلي غرفة نوم أمه فيختلط البكاء بالضحكات وعند الأصيل عقد القران وفي المساء أقيم حفل الزفاف البسيط في بهو مسكننا.. وأنا وزوجتي نجلس متجاورين ويدي تمسك بيدها.. وسعادة الدنيا تطل من وجهها.. وحزن الدنيا كله يتكثف في قلبي ويخنق صدري وكلما نظرت زوجتي إلي باسمة اغتصبت الابتسامة وبادلتها الابتسام والسرور.
وبعد أسبوع واحد من هذا الزفاف المشحون بالانفعالات صعدت روحها الطاهرة إلي بارئها يرحمها الله رحمة واسعة.. ووقف ابني إلي جواري في محنتنا.. ورجعت من المراسم الحزينة محطما مضعضعا.. وأقسمت علي ابنتي ألا ترتدي السواد وهي التي لم يمض علي زفافها سوي8 أيام, وبعد أيام العزاء طلبت من أبنتي وزوجها أن يسافرا في إجازة لمدة عشرة أيام علي حسابي ليبتعدا عن الأحزان.. ولأخلو بنفسي في المسكن الذي شهد أجمل أيام العمر مع طيف زوجتي الراحلة وذكرياتي السعيدة معها..
وخلوت بنفسي في مسكن الحب والسعادة والأحزان.. وسألت نفسي هل رحلت عني حقا زوجتي؟ فمن تكون إذن تلك التي أراها جالسة أمامي في الفوتيه الكبير أمام التليفزيون تنظر إلي باسمة للحظة ثم ترجع ببصرها إلي التليفزيون؟ ومن تلك التي مازلت أتشمم رائحتها وعبير بشرتها الناعمة وشعرها في ملابسي وأنفي وفراشي؟ ومن تلك التي أتحدث إليها في سري كل حين.. وأروي لها أحداث يومي كما كنت أفعل معها في الزمن السعيد.
لقد مضت الآن ثمانية أشهر علي رحيلها عن الحياة ولم يفارقني طيفها لحظة واحدة.. ولم أشعر بأنني وحدي في غيابها.
ولقد ساعدت زوج ابنتي علي تشطيب شقته واشتريت بقية أثاثها وتم فرشه فيها وانتقلا إليها بعد إلحاح شديد مني عليهما بذلك, وكانا يرفضان تركي لوحدتي بعد سفر ابني.. لكن من قال إني وحيد.. وزوجتي تملأ علي وجداني وخواطري وقلبي وأفكاري.. لقد أردت أن أكتب لك قصتي لكي أقول لكل شركاء الحياة إن العشرة الجميلة والحب الصادق والعطف المتبادل.. كل ذلك لا يذهب هباء أبدا.. وإنما يحفر بصمته في قلب شريك الحياة ووجدانه.. فليحسن إذن كل شريك عشرة شريكه وليخلص له الحب والود والرحمة.. لكي تظل ذكراه علي الدوام تملأ قلب من أحبه وسعد بمشاركته رحلته في الحياة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.