من وصايا النبي.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
من علامات آخر الزمان: أن المسلمين يقتل بعضهم بعضاً, ومن علامات آخر الزمان: أن موتاً كعاص الغنم, لا يدري القاتل لم يقتل, ولا المقتول فيم قتل.
النبي -عليه الصلاة والسلام-: حقن دماء أمته, قال: ((إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام.
-ثلاث ركائز في العلاقات بين المسلمين, (حرمة الدماء):
((لو أن أهل بلدة -قال سيدنا عمر-, (أهل بلدة), ائتمروا على قتل واحد, لقتلتهم به جميعاً)):
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾
[سورة البقرة الآية:179]
يعني: المسلم, ((يظل المسلم بخير, ما لم يسفك دماً))
(إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام): يعني: ما قيمة العبادات
الشعائرية, إذا اغتصبت الأموال, وانتهكت الأعراض, وسفكت الدماء؟ والمسلمون
في وقت تخلفهم: سفكوا دماء بعضهم بعضاً, وأكلوا أموال بعضهم بعضاً,
وانتهكوا أعراض بعضهم بعضاً, عندئذ: لا قيمة لكل هذه العبادات الشعائرية,
التي يفعلها المسلمون. (إن دماءكم وأموالكم)
((ترك دانق من حرام, خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام))
الإنسان –أحياناً-: يوهم نفسه, لما يصلي, يقوم ببعض العبادات, يوهم نفسه:
أن الله راض عنه, مع أن الله لا يرضى عنه, إلا إذا كان مستقيماً في
العلاقات المادية, مستقيماً في العلاقات الاجتماعية, مستقيماً في العلاقات
الأساسية
((فإن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا, في
شهركم هذا, في بلدكم هذا, حتى تلقوا ربكم, فيسألكم عن أعمالكم, ألا فليبلغ
أدناكم أقصاكم, ألا هل بلغت))
كلام موجز, يعني: أنت مسلم, لما تكون حريص إلى أقصى درجة على الحقوق,
أنت مسلم, لا لأنك تصلي, الصلاة يفعلها كل الناس, لا تكلف شيئاً؛ تتوضأ,
وتصلي, قضية سهلة, هذه الصلاة: قضية خطيرة جداً؛ لكن إذا اكتفينا بها,
أصبحت لا قيمة لها, إذا اكتفينا بالصلاة, وفهمنا الدين على أنه صلاة, لا
قيمة لها, أما إذا رأيناها: تاجاً نتوج بها استقامتنا, الآن: الصلاة شيء
خطير؛ الصلاة طريق إلى الله, الصلاة نافذة إلى السماء, الصلاة علاقة
السماء بالأرض, علاقة المخلوق الضعيف بالخالق العظيم, علاقة المخلوق
الحادث بالإله القديم, الأزلي, الأبدي؛ الإنسان بالصلاة قوي, يستمد قوته
من الله, الإنسان بالله غني, يستمد غناه من الله, الإنسان بالصلاة عالم,
يستمد علمه من الله, أما إذا ظن أن الدين صلاة فقط, وتحرك حركة عشوائية,
عندئذ: لا قيمة للصلاة. فلذلك: هذه الخطبة على إيجازها, وعلى قصرها,
بليغة:
((إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام))
معنى (أعراضكم): العرض في اللغة: موضع المدح والذم.
لما الإنسان: يطلق لسانه في الحديث عن الآخرين, يرجىء التهم براحة تامة,
ولا يوجد على لسانه رباط كما يقولون؛ يتكلم, يطعن بهذا, يطعن بهذا, بأمانة
هذا, بدين هذا, بإيمان هذا, يستخف هذا, هو مرتاح, ويقوم -بعد ذلك- يصلي,
هذه الغيبة: من أشد الكبائر.
يعني: الغيبة:
﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾
[سورة الحجرات الآية:12]
والشيء المؤلم: أن موضوع الغيبة, موجود في الحلقات
الدينية كلها, مرتاح؛ يتكلم على أخيه, يطعن بإيمان أخيه, يطعن بنزاهة
أخيه, لا يوجد مشكلة أبداً, يخالف نصاً قرآنياً صريحاً.
هذه المشكلة: أن الذي فهم الدين: أنه خمس عبادات شعائرية, هذا فهم
سقيم, الدين مئة ألف بند, لا أبالغ (مئة ألف)؛ في حياتك اليومية, في بيتك,
في صحتك, علاقتك مع زوجتك, مع أولادك, بموضوع عينك, وشمك, وأنفك, ولسانك,
ويدك, وأذنك, الدين منهج كامل, أنت حينما تطبق هذا المنهج الكامل, تجد
أصبحت تصلي, إذا انضبط الدين, يصبح..... فقط صلاة, وصوم, وحج, انتهى
المسلمون.
أنا قلت لكم, -كما قال عليه الصلاة والسلام-: ((لن تغلب أمتي –(لن), كلام
النبي, لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى-, لن تغلب أمتي من اثني عشر
ألف من قلة))
الحرم وحده: فيه مليوني مصل, الحرم وحده, (وحده) مليونين, وفي مليون
يصلون حول الحرم؛ فثلاثة ملايين, مع أن اثني عشر ألفاً من هؤلاء, لو كانوا
-كما أراد الله- لن يغلبوا في العالم.
إذاً: عندنا خلل خطير جداً, كيف الدين ضغط, صار عبادات فقط, والمعاملات
لم يعد لها قيمة, تجد شخصاً يأكل مالاً حراماً, يعتدي على حقوق الآخرين,
كل مجلسه غيبة, ونميمة, يؤذن, يصلي أول صف, هذا الفهم السقيم, فصلنا الدين
عن الحياة, أصبح الدين...... هذا أساساً: الذي أراده أعداء الإسلام, دع
ما لله لله, وما لقيصر لقيصر, يقول لك: في سلطة زمنية, سلطة دينية, الدين
شيء, الدين في الكنيسة, والدنيا تحكمها قوانين, وعلاقات, ومصالح, من هنا:
الشيطان نفذ, فصل لك حياتك عن دينك, الدين في الجامع, والدنيا افعل ما
تشاء.
تجد أصحاب مهن راقية, محامون أحياناً, يعلم علم اليقين: أن القضية غير
محقة؛ يتولاها, ويدافع عنها, ويأخذ مبالغ طائلة عليها, فصل دينه عن عمله؛
أحياناً: يكون –مثلاً- طبيب, أحياناً: يكون مهندساً, معلماً, مدرساً,
تاجراً: يتعامل ببضاعة محرمة أحياناً, بعلاقة ربوية, فصل دينه عن حياته,
هذا الفصل: هو المحق, لما لا تفصل الدين عن الحياة, تطبق في حياتك منهج
الله عز وجل, الآن: أصبح للصلاة معنى, للصوم معنى, للحج معنى, كله أصبح له
معنى.
وقلت لكم: أكبر وهم يتوهمه
الناس: بالحج تُغفر كل الذنوب, لا يُغفر إلا ما كان بينك وبين الله, أما
ما كان بينك وبين العباد, لا تُغفر إلا بالأداء أو المسامحة.
فموطن الشاهد في هذه الخطبة:
((ألا إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم
حرام, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا, حتى تلقوا ربكم,
فيسألكم عن أعمالكم, ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم, ألا هل بلغت. قال: فلما
قدمنا المدينة, لم يلبث إلا قليلاً, حتى مات عليه الصلاة والسلام))
[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن سراء بنت نبهان]
كانت خطبة الوداع.
الآية الكريمة -ذكرتها البارحة:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
[سورة الحج الآية:32]
العلماء: فرقوا بين أداء الشعيرة, وبين تعظيم الشعيرة,
أكثر من أربعة ملايين حجوا, وأدوا الشعيرة؛ لكن الذين عظموا هذه الشعيرة
قلائل, (الذين عظموها)
ومن تعظيم شعائر الله:
أن تؤدى الشعيرة, كما أداها النبي عليه الصلاة والسلام, من تعظيم شعائر
الله: أن تؤدى هذه المناسك؛ بنفس طيبة, وشوق غامر, من تعظيم هذه الشعائر:
أن تؤديها, وتتمنى أن تعود لهذه الأمكنة مرات, ومرات.
ثلاثة شروط لتعظيم هذه الشعائر, أما مئات ألوف الحجاج يقولون: لن نعيدها؛ لأنه شوب, أو الازدحام, أو تأخر.
فالإنسان: إذا تأفف من مناسك الحج, الحج أساسه في مشقة, وفي سلبيات, وفي
إيجابيات, والسلبيات ثمن الإيجابيات, وهذه الصلة المحكمة في الحج, ثمنها:
هذه المشقة التي تحملتها, وكل شيء له ثمن.
((وركعتان في المسجد الحرام, بمئة ألف ركعة في ركعة -الركعة الواحدة
هناك: بمئة ألف ركعة, في الحديث الصحيح-, وركعة عند رسول الله, بألف ركعة
في بلدك))
وهذا الشيء واضح جداً.
فلذلك -أيها الأخوة-: لما أُنزلت هذه السورة:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾
[سورة النصر الآية:1]
﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾
[سورة النصر الآية:2]
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
[سورة النصر الآية:3]
هذه نعوة النبي, هذه السورة القصيرة: فيها نعوة النبي,
وصل النبي -اللهم صل عليه- إلى قمة النجاح في الدعوة, الإسلام وصل إلى كل
أنحاء الجزيرة, واستقر, ودخل الناس في دين الله أفواجا, قال:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾
[سورة النصر الآية:1]
ولا بد من أن يأتي, لأن (إذا): تفيد تحقق الوقوع:
﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾
[سورة النصر الآية:2]
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
[سورة النصر الآية:3]
يعني: ليس من باب التشاؤم؛ لكن من باب الواقع, كلنا
سوف نغادر, ما أجمل أن تكون المغادرة؛ داخلة في حساباتنا اليومية, داخلة
في علاقاتنا المالية, داخلة في علاقاتنا الاجتماعية, (المغادرة), وما أجمل
أن نستعد لهذه المغادرة؛ أن نستعد لها بالتوبة النصوح, بالعمل الصالح, أن
نستعد لها بخدمة الآخرين.
يعني: هذه من معاني الحج: أن الإنسان بعد الحج, يجب أن يعود كيوم ولدته أمه, وأن يفتح مع الله صفحة جديدة.
وكنت أركز في كل خطب الحج في عرفات: على ما بعد الحج.
أنا أعلم: أن هؤلاء –جميعاً- حجوا, وقفوا في عرفات, ودعوا, وصلوا؛
ولكنني ألح على سلوك الحاج بعد الحج, يا ترى! حينما وقف على الحجر الأسود,
وصافحه, وفاوض كف الرحمن, وقال: ((يا رب, بسم الله, الله أكبر, اللهم
إيماناً بك, وتصديقاً بكتابك, واتباعاً لسنة نبيك, وعهداً على طاعتك,
(عهداً على طاعتك))
ماذا قال الله عز وجل: ((ما وجدنا لأكثرهم من عهد))
أما سيدنا إبراهيم, أثنى الله عليه قال:
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾
[سورة النجم الآية:37]
يعني: صدق ما عاهد عليه الله عز وجل.
فالإنسان: إذا عاهد الله, إذا تاب توبة نصوحة, ينبغي أن يكون عند هذه التوبة, وعند هذا الحد.والحمد لله رب العالمين