الحمد لله بنعمته أهتدى المهتدون ، و بعدله ضل الضالون ،
أحمده سبحانه و أشكره حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون ،
و أتوب إليه وأستغفره ، سبحانه عما يصفون ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا يسئل عما يفعل و العباد يُسألون ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبد الله و رسوله الصادق المأمون،
اللهم صل و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه ،
و من هم بهديه مستمسكون .
أمّــــــا بعــــــد :
فأوصيكم ـ أيها الناسُ ـ و نفسي بتقوى الله سبحانه ،
و عدَمِ الإغترار بهذه الدنيا ؛ فإنها حُلوةٌ خضِرةٌ غرَّارَة ، قلَّ من تعلَّق بها فَسَلِمَ ،
و مَا مدَّ أحَدٌ عينَيه إلى مَتاعِها إلاَّ و أشرأبَّتْ نفسُهُ و قارَبَ الفِتنَةَ ، أو حام حولَ حِمَاها ،
السعيدُ مَن جعلها مطيةً للآخِرة ، فصارَت له دارَ ممرٍّ لا داَر مقرّ ،
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه: 131].
أيُّها الناسُ ، طَبعُ الإنسانِ الجهول أنّه ميَّالٌ إلى حبِّ المحمدَة و نيل الشهرة
و إنتشار الصِّيت و السمعة ، و نفسُه توَّاقةٌ إلى أن يُشارَ إليه بِالبَنان ،
أو أن يكونَ هو حديثَ المجالِس ، أو أن يُسمَع قولُهُ ، أو يُكتب قولُهُ .
و الواقع أنَّ مَن هذه حالُهُ فإنّه لا يحبّ أن يكونَ على هامِش الاهتمام ،
أو في مؤخِّرة الركب ، أو في دائرة الرِّضا بالدُّون .
و مثل هذا الطبعِ يُعَدّ أمرًا جبلِّيًّا إلى حدٍّ ما ؛ لا يُعاب مطلقًا ، و لا يُحمَد مطلقًا ؛
لأنَّ الإطلاق في كلا الأمرين مُوقِعٌ في خللٍ غيرِ محمود ؛
إذ أن صاحبَه سيظلُّ مُتأرجِحًا بين إِفراطٍ و تَفريط ،
و القاعدةُ المنصِفة تشير إلى أن خيرَ الأمور هو الوَسَط ،
و أنّ كلا طرَفَي قصدِ الأمور ذميم .
و مِن هذا المنطَلَق ـ عبادَ الله ـ جاءَتِ الشريعةُ الغرَّاءُ بالدَّعوةِ إلى كلِّ خيرٍ ،
و إلى كلِّ ما يُوصِلُ إلى هذَا الخير ، و جاءَت بالنَّهي عن كلِّ شرٍّ ،
و عن كلِّ ما يوصل إلى هذَا الشر ؛ فأصبَحَ الحلال بيِّنًا و الحرام بيِّنا ،
غيرَ أنّ بينهما أمورًا مشتبهات ، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ؛
كالرّاعي يرعى حول الحمى يُوشِكُ أن يرتع فيه .
و إنَّ مما حُذِّر منه في الشرع المطهَّر و جاء التحذير من مغبَّته هو حبّ الشهرةِ و الظهور ،
الداعِي النفس المريضة إلى تعلُّق القلبِ بتأسيسِ بنيان السّمعةِ على شفا جرفٍ هار ،
و قديماً قيل " حب الظهور قصم الظهور"
إذ من خصائص الشهرةِ أنها تؤزُّ المرء إلى المغامَرة أزًّا ،
و يُدَعَّى إلى تبريرِ كلِّ وسيلة مُوصِلة إليها دعًّا ، و هنا مكمَنُ الخطر و محلُّ الداء .
حبُّ الشهرةِ – ياعباد الله - مظِنَّةُ الانحراف ، و طريق الشّذوذ عن الجماعَة ،
و سُلَّمُ الإعجابِ بالنفس و الإعتداد بالرأي ، إضافةً إلى اقتفاءِ غرائبِ الأمورِ ،
و عدمِ الأخذ بالنصح و الرجوع إلى الحق .
الشهرة سربالُ الهوَى و غربال حبِّ المخالفة ، من اشتَهَر تعرَّض للفتنة ،
و من تعرَّض للفتنة لم يسلم من عواقبها . حبُّ الشهرةِ مرضٌ عُضال يورِث الأنانيّةَ
و حبَّ الذات و الإعجابَ الذي يقضي على معرفةِ عيوب النفس .
نرى الشخصَ قد علا و حلّق في جوِّ الشهرة ، و جاز فيها مسارحَ النظَر ،
ثم انحَدر بعد هذا و تدهوَر و عفا رسمُهُ ، فصار أثرًا بعد عين ، و خبرًا بعد ذات .
و قد يُساقُ المرء فرحاً إلى الثناء و الشهرة و تخليد الذكر ،
فإذا أخَذ مأخذَه لم يكَد يخطو خطوَةً حتى تتعثَّر أقدامه ، و يزل في مهاوي الردى ؛
لأنَّ طالبَ الشهرة أسيرٌ لخوفٍ لا ينقطع و إشفاقٍ لا يهدأ ،
قلِقٌ مُتلفِّتٌ تُقيةَ صَيدِ صائد أو انتقاد متربص ،
و ربما ماتَ في طلبِ الشّهرة و لم ينَل منها شيئًا يقرِّبه إلى الله جل و علا .
قال ابن عبد البر :
" الإعجابُ آفةُ الأحباب ، و من أُعجِب برأيه ضلَّ ، و من استغنى بعقلِه زلَّ " .
معاشر الأحبة : إنَّ من أشدِّ العوائق عن كمالِ الانصياع للحق و لزوم الجماعة
و البعد عمَّا حرّم الله حبَّ الشهرة و الصِّيت ؛ لأنّه متى لامَسَت الشهرة قلبَ المرء
بزخرفها حجَبَتْه عن نورِ الجماعة و الثباتِ على الطريق المستقيم
و الرجوع إلى الصواب عند الزلَل ، مهما كانت الشهواتُ المتاحة أمامه .
و القارئون للتاريخ سيجِدون كمًّا كبيرًا من ضحايَا حبِّ الشهرة دوَّن التأريخ عِبرتهم ،
و صاروا مثلاً لكل مُتَّعِظ . يقول ابن خلدون في مقدّمته المشهورة :
" قلَّما صادَقَتِ الشهرة و الصّيت موضِعها في أحدٍ من الناسِ ،
فكثيرٌ ممن اشتهَر بالشّرّ و هو بخلافه ، و كثيرٌ ممّن تجاوَزت عنه الشهرةُ و هو أحقُّ بها ،
و قد تُصادِفُ موضِعَها و تكون طبقًا على صاحبها .
و إنّ أثَرَ الناس في إشهارِ شَخصٍ ما يدخُلُه الذهولُ و التعصُّب و الوَهم
و التشيُّع للمَشهور ، بل يدخله التصنُّع و التّقرُّب لأصحابِ الشهرة بالثناءِ
و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك . و النفوس مُولَعةٌ بحبّ الثناء ،
و الناسُ متطاوِلون إلى الدنيا و أسبابها ، فتَختَلُّ الشهرة عن أسبابها الحقيقيّة ،
فتكون غيرَ مطابقة للمشتهر بها " انتهى معنى كلامه .
عبادَ الله ، إن خطورةَ طالبِ الشهرة و عاشقِها ليست من الأخطار القاصِرة
على نفس المشتهِر فحسب ، بل إنها مِنَ المخاطر المتعدّيَة إلى غيره ،
و الخطرُ المتعدِّي أولَى بالرّفع و الدّفع من الخَطَر القاصر ؛ لئلا يتضرَّر به الآخرون ؛
إذ أن عاشق الشهرة لو تُرِك له المجال فسيُفسِد في الآخرين مِن حيث يشعُر أو لا يشعر ؛
لأنّ شهرته حجَبَت عنِ الناس الفرزَ و التنقيَة في باب التلقِّي عنه ،
و شهرتُه ستوجِد له أتباعًا و أَشياعًا من قبل الأغرار من الناس و دهماء المجتمعات .
و قد أشار ابن قتيبةَ يرحمه الله إلى مثل هذا بقوله :
" و الناسُ أسراب طيرٍ، يتبعُ بعضهم بعضًا ،
و لو ظهَر لهم من يدَّعِي النبوةَ مع معرِفَتهم بأنّ رسول الله خاتم الأنبياء
أو ظهر لهم يدَّعِي الربوبيّةَ لوَجَد على ذلك أتباعًا و أشياعًا " انتهى كلامُه .
و مع هذا كلِّه – يا إخوة الإيمان - فإنَّ حبَّ الشهرة داءٌ مُنصِفٌ يفتِكُ بصحابِه
قبل أن يفتِك بغَيره ؛ فما أحبَّ أحدٌ الشهرةَ و الرياسةَ إلا حَسَدَ و بغَى
و تتبَّعَ عيوبَ الناس و كرِه أن يُذكَر أحدٌ بخير ، لا ينظُر إلا إلى رضا الناس ،
و من تتبَّع رضا الناس فقد تتبَّع سراباً .
و لنأخُذ الحكمة ممن جرَّبَها و خاضَ غِمارها رغمًا عنه ، فعرَفها و عرَف خطَرَها ،
و حذَّر منها مع أنَّ شهرتَه كانت شهرةَ حقّ و ثبات على الدين .
فها هو الإمامُ أحمد رحمه الله إمامُ أهل السنّة يقول :
" مَن بُلِي بالشهرةِ لم يأمَن أن يفتِنوه ، إني لأُفكِّرُ في بدء أمري ؛
طلبتُ الحديث و أنا ابن ستّ عشرة سنة " .
ثم إن الشهرة ـ عباد الله ـ قد تكون بالشذوذ و المخالفة للحقِّ كما أسلَفنا ،
و قد تكون أيضًا في قول الحقّ و إظهاره ، فمن قال الحقَّ ليشتهر به فهو مُراءٍ
و واقعٌ في أتُّونِ الشرك الخفيِّ الذي حذَّر منه النبي و الواجب على المرء أن يقولَ الحقَّ و لا يتراءى به ؛ لأنه ربما أعجَبَته نفسُه ،
و أحبَّ الظهورَ فيُعاقَب ، فكم من رجلٍ نطَق بالحقّ و أمر بالمعروف فيُسلَّط عليه
من يؤذيه لسوءِ قصدِه و حبِّه للشهرة و الرياسة الدينيّة ؛
و هذا داءٌ خفيٌّ سارٍ في النفوس .
فإذَا كان هذا فيمَن قالَ الحقَّ لينالَ الشهرة ؛ و جمع محمدةً واحِدة وهي قولُ الحق ،
و مذمَّةً واحدة و هي حب الشهرة ،
فكيف إذَن بمن جمع مذمَّتَين : قول الباطل من أجل الشهرة ،
عافانا الله و إياكم من الفتن .
أيها المسلمون : إنّ طالبَ الشهرة و التصدُّر بالباطل تُرضيه الكلمة
التي فيها تعظيمُه و إن كانت باطلاً ، و تُغضِبُه الكلِمة التي فيها ذمُّه و إن كانَت حقًّا ،
و المؤمِن تُرضِيه كلِمة الحقّ له و عليه ، و تُغضِبه كلِمة الباطل له و عليه ؛
لأنّ الله يحبّ الحق و الصدق و العدل ، و يُبغِض الكذب و الظلم .
و حسبُنا في ذلك وصيّة الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة و التسليم ،
فقد قال صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم :
(( إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا و هوًى متبعًا و إعجابَ كلّ ذي رأي برأيه
فعليك بخاصّة نفسك ، و دَع عنك العوام ))
رواه أبو داود و الترمذي .
و يا لله ! ما أصدَقَ كَلام المصطفى إذ يقول :
(( حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه ))
رواه البخاري .
ألا فاتقوا الله عباد الله ، و ابتعدوا عن كل مايرديكم،
وأخلصوا لله في أقوالكم و أعمالكم ، اعملوا لأخراكم ، والتمسوا رضا مولاكم ،
و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر .
بارك الله لي و لكم في القرآنِ و السنّة ،
و نفعني و إياكم بما فيهما من الآياتِ و الذّكر و الحكمة ،
قد قلتُ ما قلتُ ، إن صوابًا فمن الله ، و إن خطأً فمن نفسي و الشيطان ،
و أستغفر الله إنّه كان غفارًا .