الحمد لله خالق كل شيء ، و رازق كل حيّ ،
هدى من شاء من عباده بفضله ، و أضلّ من شاء بعدله ،
أحمده سبحانه و أشكره على إنعامه و طَوله ، الخيرُ كلّه بيديه ، و العملُ و الرغبة إليه .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سميعٌ لمن يناديه ، قريبٌ ممّن يناجيه ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبد الله و رسوله أرجح البريَّة إيماناً ،
و أثقلهم ميزاناً ، و أبلغهم حجةً و برهانا . صلـى الله و سلم و بارك عليه ،
و على آله المطهرين تطهيراً ، و أصحابه المعظّمين توقيراً ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان ، و سلم تسليماً كثيراً .
أمـــا بعــــد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله رحمكم الله ،
( فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
[ لقمان : 33 ] ،
النعيم في هذه الدار لا يدوم ، و الأجل فيها على الخلائق محتوم ،
أنظروا مصارعَ المنايا ، و تأمّلوا قوارعَ الرزايا ،
و رحم الله أمرأً عمّر بالطاعة لياليَه و أيامَه ،
و أعدّ العدّة للحساب يوم القيامَة ، قدّم صالحَ الأعمال ، و حاسب نفسَه في جميع الأحوال ،
( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
[ الحشر: 18 ] .
أيها المسلمون ، حرَّر الإسلامُ العبادَ من رقِّ الجاهلية و أغلالها ،
و أنار عقولَهم من أوهامها و تقاليدها ، نقلهم من ذلِّ الكفر و ظلماته
إلى عزّ الدين و نوره و برهانه ، بيَّن حقَّ كلِّ مسلم و مسلمة ،
و منحها لهم كاملةً غيرَ منقوصة ، أعطى كلاًّ ما يلائم فطرتَه و طبيعتَه .
كانت المرأة في جاهليات الأمم تُشتَرى و تُباع كالبهيمة و سائر المتاع ،
تُملَك و لا تَملِك ، و تورَث و لا ترِث ،
بل لقد أختلفت أهلُ تلك الجاهليات : هل للمرأة روحٌ كروح الرجل ؟
و هل خُلقت من طينة آدم أو إنها خُلقت من الشيطان ؟
و هل تصحّ منها عبادة ؟ و هل تدخل الجنة ؟ و هل تدخل ملكوت الآخرة ؟
حجـروا عليها في تصرّفاتها ، و جعلوا للزوج حقَّ التصرّف في أموالها من دونها ،
كم وضعت لها شرائعُ الجاهلية أحكاماً و أعرافاً أهدرت كرامتَها ، و ألغت آدميتَها ،
فعاشت بين تلك التقاليد الباليات بلا شخصية و لا ميزانٍ و لا إعتبار ، قليلةَ الرجاء ،
ضعيفةَ الحيلة ، كاسفةَ البال ، ضاعت حقوقُها بين أبواب الذلّ و الإحتقار ،
حتى حقّ الحياة كان محلَّ عبث ؛ تُحرَق مع زوجها إذا مات ، و توأَد خشية الفقر و العار ،
جسّد ذلك القرآن الكريم في قول الله عز شأنه :
( وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ٱلتُّرَابِ
أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ
[ النحل: 58- 59 ] ،
و في قوله سبحانه :
( قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَاء عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
[ الأنعام : 140 ] .
أمَّا حقُّ المرأة في الزواج فحدّث عن الجاهليات و لا حرج ،
تُزوَّج على من لا ترتضيه ، في أنواعٍ من أنكحة الشغار و البدل و الإستبضاع
و الإكراه على البغاء ، و إذا غضب عليها زوجها تركها معلَّقةً ،
لا هي بذات زوج و لا هي بمطلقة .
و حين أذن الله لشمس الإسلام أن تطلع ، و لنور رسالة محمد أن يسطع ،
حينذاك أخذت ظلماتُ الجاهلية تتبدّد ، و قوافل المظالم و البغي تتلاشى ،
و المواكب من التقاليد البالية يختفي ، و الأعمى من التقليد يتهاوى ،
و نادى المنادِي :
( إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ
[ آل عمران : 18 ] .
فجاءت التشريعاتُ العادلة ، و تنزّلت الأحكام الحكيمة ، و شاعت الأخلاق الرحيمة ،
رُسِمت الحقوق ، وُ حدّدت الواجبات في شمولٍ و كمال ،
يسري على الغني و الفقير ، و العظيم و الصعلوك ، و الذكر و الأنثى ،
يتحاكم به رعاؤهم كما تتحاكم إليه رعيتهم ،
الإحتكام به و إليه واجب ، و الوقوف عند حدوده فرض لازم ،
( تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ
[ البقرة : 229 ] .
دينٌ يُصلح ما أفسدته الأهواء ، و يعالج ما أمرضته الجاهلية ،
( صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ
[ البقرة : 138 ] ،
حكم الله
( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
[المائدة:50].
و طبقاً لهذا التشريع المحكَم و الدستور الكامل جاء الحديث عن المرأة
كما جاء الحديث عن الرجل :
( يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ
إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
[ النساء : 1 ] ،
أيها المسلمون ، لقد قرّر الإسلامُ أن المرأة إنسانٌ مبجّل ، و كيان محترَم ،
مشكور سعيُها ، محفوظةٌ كرامتُها ،موفورةٌ عزَّتُها ، ردّ لها حقّها المسلوبَ،
و رفع عنها المظالم ، لا تُحبس كُرهاً ، و لا تُعضَل كرهاً ، و لا تورَث كرهاً ،
تُنزَّل منزلتَها اللائقة بها أمّاً و أختاً و زوجة و بنتاً ،
بل مطلوبٌ المعاشرةُ بالمعروف ، و الصبرُ على السيئ من أخلاقها ،
( وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
[ النساء : 19 ] .
معاشر الإخوة ، و هذا حديثٌ عن مسألة من مسائل الزوجية ،
يتجلّى فيه موقف الجاهلية و موقف الإسلام ، مسألةٌ كان للإسلام فيها موقفٌ حازم ،
مسألةٌ إلتزامُ حكم الإسلام فيها يقود إلى الطهر و الزكاء في الدين و النفس و العرض ،
و يتجلى فيها مظهرٌ من مظاهر الإيمان بالله و اليوم الآخر ،
و التقصيرُ فيها جنوحٌ إلى مسالك الجاهلية ، و تغليبٌ للمصالح الشخصية .
تلكم هي مسألة عَضْل المرأة و منعِها من الزواج من الخاطب الكفء
إذا تقدّم إليها أو طلبتْه و رغِب كلُّ واحدٍ منهما في الآخر ،
يقول الله عز و جل في محكم تنزيله :
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوٰجَهُنَّ
إِذَا تَرٰضَوْاْ بَيْنَهُم بِٱلْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ
ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
[ البقرة : 232 ] .
معاشر المسلمين ، العضلُ تحكّمٌ في عواطف النساء و مشاعرهن ، و إهدارٌ لكرامتهنَّ ،
بل هو إلغاءٌ لإنسانيتهنّ من غير خوف من الله و لا حياء من خلق الله ،
و من غير نظرٍ في العواقب ، و لا رعاية لحقوق الرَحِم و الأقارب ،
مخالفةٌ لدين الله و الفطرة ، و مجانبةٌ لمسلك أهل العقل و الحكمة ،
و مجافاةٌ للخلق الكريم . و سُمِّي العضلُ عضلاً لما يؤدّي إليه إمتناع الأولياء
من تزويج مولياتهم من الشدّة و الحبس و التشديد و التضييق و التأثير المؤلم ،
بل المؤذي للمرأة في نفسها و حياتها و عيشها .
العضلُ مسلكٌ من مسالك الظلمةِ الذين يستغلّون حياءَ المرأة و خجلَها و براءتَها
و حسنَ ظنّها و سلامةَ نيَّتها ، و ما ذلك إلا لعصبيةٍ جاهلية أو حميَّة قبلية
أو طمعٍ في مزيدٍ من المال أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة .
يجب على الأولياء أن تكون غايتهم تحقيقَ مصالح مولياتهم الدينية و الدنيوية ،
مبتعدين عن المصالح الشخصية و الأنانية الذاتية .
أيها المسلمون ، العضلُ لا يزحف بظلّه الثقيل على المجتمع بصورةٍ واحدة ،
بل إنه يتلوّن بألوان شتى ، و يتشكّل بأشكال عديدة ، في صور قائمةٍ ،
و أحوال بشِعة ، تُعلَم شناعتُها و تُدرَك دناءة غايتها من مجرّد تصوّرها .
معاشر الإخوة ، من صور العضْل ما جاء في قول الله عز و جل :
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوٰجَهُنَّ
إِذَا تَرٰضَوْاْ بَيْنَهُم بِٱلْمَعْرُوفِ ،
فإذا طُلِّقت المرأة أقلَّ من ثلاث طلقات ثم أنتهت عدّتها و بانت بينونةً صغرى
و رغِب زوجُها الذي طلَّقها في العودة إليها بعقدٍ جديد و رغِبت أن ترجع إليه
قام وليُّها بمنعها من ذلك من غير سبب صحيح ،
لم يمنعه إلا التمسُّكُ ببعض رواسب الجاهلية و العادات البالية و العناد المجرّد .
و من أنواع العضل ما بيَّنته الآية الكريمة الأخرى في قول الله عز و جل :
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ
فِى يَتَـٰمَى ٱلنّسَاء ٱلَّلَـٰتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ
[ النساء : 127 ] ،
و في هذه الصورة يمتنع وليّ اليتيمة عن تزوجيها لغيره
لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها ،
ففي صحيح البخاري رحمه الله
عن أمنا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها و عن أبيها أنها قالت:
هذه الآية في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته ـ
أي : في أمواله و تجارته ـ و هو أولى بها ـ
أي: يريد أنه أولى بها في نكاحها ـ فيرغب أن ينكحها ،
فيعضلها و لا يُنكحها غيرَه كراهيةَ أن يشركَه أحد في ماله .
و من صور العضل ما جاء في قول الله عز وجل :
( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً
وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ
[ النساء : 19 ] ،
و معنى ذلك أن يضيّق الزوجُ على زوجته إذا كرهَها ، و يسيء عشرتَها ،
أو يمنعها من حقِّها في النفقة و القسْم و حسن العشرة ،
و قد يصاحب ذلك إيذاءٌ جسدي بضربٍ و سبّ ،
كلّ ذلك من أجل أن تفتدي نفسَها بمال و مخالعة :
( لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ
أي: لكي تفتديَ المرأة نفسَها من هذا الظلم بما أكتسبته من مال المهر و الصداق ،
و بهذا العضل اللئيم و الأسلوب الكريه يسترجع هؤلاء الأزواج اللُّؤماء
ما دفعوه من مهور، و ربما أستردُّوا أكثرَ ممَّا دفعوا ،
فكلّ ما أخذوه من هذا الطريق بغير وجه حقٍّ فهو حرام و سحتٌ و ظلم .
و من صور العضل المقيت أن يمتنع الولي عن تزويج المرأة
إذا خطبها كفء و قد رضيته ، و ما منعها هذا الوليُّ إلا طمعاً في مالها أو مرتَّبها ،
أو طلباً لمهرٍ كثير ، أو مطالبات مالية له و لأفراد أسرته .
تلكم صورةٌ لئيمة يرتكبها بعض اللؤماء من الأولياء من أجل كسبٍ مادي ،
أو من أجل حبسها لتخدمه و تقوم على شؤونه .
أيها الإخوة المسلمون ،
و ثمَّة تصرفاتٌ من بعض الناس قد تؤدِّي إلى عضل النساء و حرمانهن من الزواج
و صرف الخُطاب عنهن ، من ذلك تعزُّز وليّ المرأة و إستكبارُه
و إظهار الأنفة للخُطّاب ، فيتعاظم عليهم في النظرات ،
و يترفّع عنهم في الحديث ، فيبتعد الرجال عن التقدُّم لخطبة أبنته أو موليته ،